الجمعة، 21 يونيو 2013


أول ما سمعت عنه أثناء محنة اعتقاله في 2004م على ذمة الحرب الأولى و خلفية دوره التأسيسي لمنتدى الشباب المؤمن، كنت حينها في قاعة الدرس في جامعة صنعاء في دبلوم الدراسات العليا، ما أزال أتذكر كلمات قالها الدكتور جميل الحدابي في الاحتجاج على خبر اعتقاله كان يؤكد أن هذا الشخص من طراز مختلف ولا يمكن أن يكون له علاقة بمشروع الفتنة في صعدة و أنه عرفه عن قرب ولمس فيه الصدق والإخلاص والوعي الإيماني العميق البعيد عن العصبية الضيقة.
 إنه الباحث العلامة محمد يحيى  سالم عزان الأمين العام السابق لمنتدى الشباب المؤمن وعضو جمعية علماء اليمن من أولي البقية من علماء الزيدية في اليمن الذين يرفضون الانجرار إلى مشروع الفتنة الطائفية ويحذرون من تأثير هذه الفتنة على الإسلام والمذهب الزيدي في اليمن. التقت معه الصحوة في هذا الحوار لقراءة واقع الصراع اليوم في مناطق شمال الشمال ومخاطر تصاعده وتحويله إلى معارك طائفية تهدد أمن واستقرار اليمن في ظل استمرار بعض جماعات العنف في العمل ضمن أجندة  تحويل الإسلام إلى مشروع فتنة وصراعات، وشعارات للموت والقتل واللعن. فإلى الحوار:
حاوره: مجيب الحميدي
* كيف تقرأ واقع الصراع المذهبي في اليمن؟
- أعتقد أن المذهبية الطائفية كانت وليدة الصراع السياسي في تاريخنا الإسلامي، فهو الذي انتجها في البدايات الأولى، ثم انعكست الأمور تدريجيا فصارت "الأمة تلد ربتها" بأن أضحت المذهبية هي التي تنتج السياسة، وهي التي تعبر بالحركات السياسية إلى الحكم، وتحمل الطامحين إلى الزعامة وتمكنهم في المجتمع، لما لها من أثر عاطفي وروحي يتفاعل معه قطاع واسع من الناس، ويسهل التأثير عليهم به. فكلما أشتد التنافس السياسي ارتفعت درجت الغليان المذهبي، وإذا استقرت أوضاع السياسة بأن يغلب طرف على طرف، أو تتفق الأطراف على صيغة سياسة مقبولة، أو بأن أدرك كل طرف أن تمدده واستقطابه قد بلغ مداه، هنالك ينخفض مستوى شحن الاتباع والتنفير عن الخصوم بمقدار ما يأمن كل طرف من الآخر.
*  ما مخاطر هذا الصراع على أمن واستقرار اليمن أو بصيغة أخرى ما احتمالات تحوله إلى صراع عسكري طائفي؟
-خطورة هذا الوضع على اليمن، كبيرة ومخيفة لأن المجتمع اليمني لم يألف عمليات الفرز والتصنيف الحاد؛ لذلك تجده مختلطا ببعضه في نسيج واحد ليس فيه حارات ولا جوامع ولا مدارس ولا جامعات ولا محاكم تخص جماعة دون جماعة، رغم إدراك الناس الفوارق المذهبية التي يتعاملون معها وكأنها جزء من العادات والتقاليد. غير أن بعض التيارات التي يغلب عليها السطحية والحرفية وحدة الموقف تجاه الآخر تسللت إلى المجتمع السني. كما تسللت إلى المجتمع الزيدي تيارات يغلب عليها المبالغة في الولاء، والتأثر بالأساطير والخرافات، وأخذ كثير من اليمنيين المتفاهمين مذهبياً ينجذبون- تحت مؤثرات شتى- نحو هذا الطرف المتطرف أو ذلك، وشيئاً فشيئاً صارت المذاهب مزيجاً من الدين والسياسة، وتحولت إلى ما يشبه معسكرات يحشد كل منها لمواجهة الآخر، وأخذ الوسط المعتدل يذوب بالتدرج تحت تأثير حرارة الفرز والشحن والتحريض، وتوطيد مبدأ «من لم يكن معنا فهو ضدنا» حتى تحولت الحياة في بعض المناطق إلى مأساة يُحاسَب الناس فيها على هوياتهم المذهبية، ونتج عن ذلك قتل وتشريد ومواجهات مسلحة مؤسفة وأسوأ ما في الموجة المذهبية الجديدة أنها تدعو لرسمنة التفرقة والتمييز الطائفي، من خلال ما تطالب به من تخصيص مدارس وجامعات وجوامع وطقوس خاصة، تقدم فيها أفكار معلبة بحجة الحفاظ على الهوية. وتكمن خطورتها في أنها ستكون مجرد معامل لصناعة عقول أحادية التفكير وأوكار للتحريض والشحن على الآخر باعتباره غريبا غير مألوف في تلك الأوساط الخاصة، وبالتالي تتحول تلك المؤسسات إلى ما يشبه معسكرات تعبئة ومتاريس مواجهة، تنفجر لأتفه الأسباب وتقضي على كل شيء.
•كيف تسربت استباحة دماء المخالفين وأموالهم إلى هذا الصراع؟
-أشرت فيما سبق إلى أن من أهم أسباب الحشد ضد المخالفين تنشئة الجماعات في غرف مغلقة وتحت تأثير معين يستحضر فيه صورة معينة من صراع الماضي الذي يتعين الثأر له، إلى جانب صور أخر من مستقبل النعيم الموعود لمن يعمل وفق التعاليم والمخططات التي حشي بها رأسه على حين غفلة.
•كيف يمكن معالجة هذه الظاهرة المرضية؟
-أعتقد أن ثمة مسالك:
أولا: رفع مستوى الوعي الشرعي بأن الحياة هبة الله عز وجل لكل الناس مهما كانت توجهاتهم، وأنه الذي سيتولى أمر الخلق، وليس لإنسان أن يصادر حق إنسان آخر في الوجود.
وأن الأنبياء لم يعتمدوا في تبليغ دعواتهم على العنف وسفك الدماء؛ لأن الإكراه على الدين ممنوع  فهو لا يصنع إيماناً ولا ينشأ عنه تدين صحيح. وأن استباحة الدماء لا يبرره: الاختلاف في الفكر، أو الرأي، أو الانتماء، أو المصلحة، إذ يكفي في كل ذلك الحوار، والجدال بالتي هي أحسن. وأن استغلال شعار القتال في سبيل الله، للقتال بسبب خصومة سياسية أو اجتماعية أو دينية خطأ، وأن الدعاوى في ذلك فارغة لا قيمة لها وأن مسلماتنا المذهبية التي نختلف فيها وعليها ليست مسلمات الإسلام التي يتعين الكفاح من أجلها إلى درجة الموت والاقدام على القتل والمقاطعة.
•ثقافة القتل واستباحة دماء المخالفين المتأولين هل لها جذورها في تراثنا المذهبي أم أن المصالح والتأثيرات الإقليمية هي من تقف وراءها؟
-لكل خلاف بين البشر أسباب بعضها يرجع إلى طبيعة تكوين الإنسان، وظروف نشأته، ومكونات بيئته. وبعضها يتعلق بالميراث الفكري الذي يحيطه منذ قدومه إلى الحياة، فيندفع معه بشكل طبيعي، وفي ضوئه تتشكل نزعاته النفسية، وملكاته الفكرية، ويبني خياراته الاجتماعية والدينية والسياسية التي يناضل من أجلها. وهو ما عبر عنه الإمام علي بن أبي طالب بقوله: "إنما قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ" فمن نشأ في بيئة مذهبية معينة «شيعية أو سنية » فإنه يستحضر في مختلف مناهجه وخطاباته ومناسباته أفكارًا محددة، ويركز على مواضيع وأحداث مخصوصة، ويمجد شخصيات ومواقف معينة، مما يؤدي إلى خلق مسلمات  يعتبرها الحق الذي يجب أن ينشأ عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير. وهذا ما يجعلنا ندرك أن أمر الاختلاف ليس نابعًا من مجرد العناد والتمرد على الحق، كما يراه كثير من الفرقاء في بعضهم.
ويمكن معالجة ذلك من خلال التعرف على طبيعة نشأة كل منا، ومراجعة ما نرى أنها مسلمات وتحليلها والصبر على ذلك حتى يتسنى الوصول إلى ما وراء حُجُب التَّبعية ونتجاوز أسوار المسلمات الموروثة. وذلك لا يتم إلا بالتواصل والحوار والمراجعة الجادة لكل شيء ومع كل الأطراف دون تحفظ أو شروط مسبقة. أما إذا قدم كل فريق ما لديه للآخرين بناء على مسلماته هو، وطالب غيره بقبول موروثه هو بدعوى أنه الحق المطلق، فالفشل سيكون مصير جهوده؛ نتيجة انشغال محل القناعة بقناعة سابقة، تحتاج أولًا إلى إخلائها بواسطة الحوار العميق وتقديم البديل الأفضل، ثم تهيئتها من جديد لقبول شيء آخر.
•هناك من يلخص مشكلتنا في محاولة البعض تحنيط التراث السياسي المذهبي المتعلق بنظريات الحكم والإمامة، هل هذه النظريات مقدسة؟
-حينما نتأمل في حركة السياسة عبر القرون الماضية نجد أن السابقين خلصوا إلى نظريات وتجارب مختلفة في أشكال الحكم نتيجة اختلاف الظروف ومتطلبات الشعوب، وهذا يعني أن تلك تجارب بشرية ليست برمتها مثالاً يجب الأخذ به، ولا خطأ يجب البراءة منه، فلا الحاضر ملزم بما أنتجه الماضي من اجتهادات ورؤى خصوصا مع زوال أسبابها وظروفها، ولا الماضي مسئول عما جدَّت به الأيام وتغير  به الزمان؛ لأن صور الأشياء وأشكالها تختلف باختلاف مواقعها، فلكلٍ تجربته ولكلٍ أسلوبه، والعبرة بمقدار ما يتحقق للناس من خير ورخاء وما يسودهم من عدل وإحسان.
•فكيف تفسر تراجع بعض علماء الزيدية عن بيان علماء الزيدية الصادر عام 1990م الذي تضمن اعترافا بالنظام الجمهوري؟
-الزيدية كغيرهم لهم تجارب في الحكم في اليمن والعراق وخرسان والمغرب قدَّموا من خلالها صوراَ مختلفة من أنظمة الحكم، ولم يقل أحد منهم أن ما مضى عليه في زمن ما هو نموذج يجب الاقتداء به والنسج على منواله، ولكن لكل حال مقال ولكل زمن رجال.وهذا لا يعني أن هنالك من اعتادوا استحضار نماذج لم تعد ملائمة لهذا العصر، ويقدمونها على أنها النموذج الأوحد لدى الزيدية وأنها المطلب الأمثل لهم في الحاضر، مستغلين لذلك أي حدث شاذ أو سلوك فردي أو حتى نص تاريخي ليس ملزما لأحد. أما بيان علماء الزيدية  الذي أشرت إليه، فاعتقد أنه أنسب مخرج للمأزق الفكري السياسي الذي وضعت فيه الزيدية، وأنا لا أعرف أن أحدا من العلماء الذين صاغوا ذلك البيان ووقعوا عليه قد تراجع عنه، ومن ادعى تراجعهم فعليه ان يأتينا في ذلك بنص مكتوب.

•توقيع بعض من صاغوا البيان على الوثيقة الفكرية التي تؤكد أن نظرية البطنين من العقائد، ألا يعد ذلك تراجعا عن بيان عام 1990م؟
-أولا: ينبغي أن تدرك أن البيان لم يكن إلغاء للنظرية أو تخطئة لها، وإنما كان بمثابة تجديد فيها، باعتبارها غير صالحة لهذا الزمان.
ثانياً: تلك الوثيقة أجحفت بالفكر الزيدي الحر وقزمته، وهي لا تمثل جميع الزيدية، ولو نظرت لتوقيع من أشرت إليهم على الوثيقة الفكرية، لوجدت أنهم وقعوا كشهود على ما جرى بين الطرفين المختلفين اللذين صدرت عنهما الوثيقة الفكرية، وهم أنصار الحوثي، وأنصار العلامة مجد الدين. ولهذا قلت من ادعى تراجع أصحاب البيان عن بيانهم فعليه أن يأتنا بنص لهم في المقصود.

•ألا ترى أن  الوثيقة تراجعت بصورة كبيرة عن الاطروحات التجديدية التي أكدت على تاريخية نظرية الإمامة؟
-أطراف الوثيقة-أنصار الحوثي والمؤيدي- لم يوافقوا يوما على أطروحات التجديد التي أشرت إليها، وهذا من حقهم، فإن أردت أنهم هم الذين تراجعوا، فهذا جوابك. وإن أردت أن ما جاء في الوثيقة هو تراجع عن التجديد من حيث المبدأ. فأتفق معك بأن التأكيد على التمسك بالنظريات السياسية التاريخية التي لم تعد قابلة للتطبيق تراجع عن مواكبة العصر وجمود على ما ينبغي التجديد فيه.. ولتبقى النظرية التاريخية جزءا من التاريخ السياسي كمثيلاتها من نظرية القرشية والأموية والعباسية والعثمانية والفارسية وغيرها، أما أن ينظر إليها على أنها جزء من الدين وأنه يجب العمل لتحقيقها وفرضها على الناس، وأن مخالفها مخالف جائر، فأمر مبالغ فيه واستغلال واضح للدين في السياسة.
•ما علاقة ما يحدث اليوم بثقافة الاحتكار الأسري للسلطة والدين والمعرفة؟ وما مدى إمكانية تخلي أنصار الحوثي عن مشروعهم السياسي القائم على نظرية الإمامة وفرضها بالقوة (الخروج المسلح)؟
-سؤالك هذا يتطلب مقدمات وتفاصيل كثيرة، سأكتفي هنا بإشارة عامة في العمق وهي أنني أعتقد أن أكثر المتنافسين على السلطة يسعون إلى الاحتفاظ بها واحتكارها إلى أبعد مدى ممكن، ولا مانع لديها ان تستخدم أي شعار: (ديني .. وطني .. وتاريخي .. وسياسي) وغيرها، وأنصار الحوثي اليوم جزء من المتنافسين وهم يستخدمون كغيرهم كل ما بوسعهم لتحقيق أهدافهم، ولو بدعوى أنهم إنما يسعون لتحقيق مراد الله، وتطبيق شرعع، كما يفعل غيرهم. أما التخلي عن أي مشروع سياسي مقلق أو التعديل في مساره.. فالذي يقرره هم أصحاب المشروع أنفسهم، وذلك مما لا يتم طواعية - في نظري – ولكن تحت ضغط الجمهور الذي يعي حقوقه و يطالب بنمط معين من الحكم، ويقرر أنه صار راشدا يمكنه الاختيار لنفسه، ولم يعد بالإمكان تجاهله أو تدجينه، عند ذلك تتراجع المشاريع الخيالية وتعود للتعامل مع الواقع، وعندها سنسمع نحن وأنت وغيرنا: فتاوى تجويز ما كان محظورا، وبيانات تبرير ما كان مستنكرا، واجتهادات تجدد ما كان بالياً. فإن لم يكن ذلك فالجمهورهو الذي سيفرض مساره كالسيل الجارف، ويرسي خياراته كالجبال الشامخة.
•كيف يمكن تأسيس ثقافة التعايش مع استقوى بعض التيارات بقوة السلاح وفرض رؤيتها بالقوة؟
-اللجوء إلى القوة ومغالبة المنافس بالسلاح؛ دليل ضعفٍ ووهنٍ في فكر من يفعلون ذلك، بل ويؤكد أن ثمة انحراف في مشاريعهم التي يدعون إليها؛ لذلك يستعينون على فرضها بسطوة السلاح وقهر الغلبة، مما يشكل عائقا في طريق بناء حياة الشعوب وتوفير العيش الكريم، ليس بسبب حيازة السلاح والتفاخر به والنظر إليه إلى أنه مصدر عز وحامي الوجود فحسب، بل لما يكمن وراء ذلك من عقلية ترى أن لها الحق في فعل ما تريد بالقوة والغلبة، وتفرض على الناس ما تراه صواباً، وبالتالي تضع المجتمع أمام خيارين أحدهما أسوأ من الآخر: فإما أن يضطر الجميع للتسلح والدخول في مختلف مشاريع الفتن والحروب لأتفه الأسباب، وإما أن يسلموا للقهر والغلبة ومنطق الاستضعاف، وينزلوا عند مبادئ الاستبداد ومناهج الاقصاء والقهر والغلبة.
*  ما الدور الذي يجب أن تقوم به مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام في تعزيز ثقافة التعايش وتحجيم مشروع الفتنة الطائفية؟
- اعتقد أنه لا يمكن الحد من بلاء المزيج السياسي المذهبي من خلال قواعد تفرضها الدولة، أو رقابة تنفذها مؤسساتها، أو مجرد إعلان اتفاقيات ومواثيق، وإن كان شيء منها قد يساعد إلى جانب منظومة إجراءات ينطلق بها الجميع برمته؛ لأن الدولة والمؤسسات ذاتها مصابة كغيرها بداء التمذهب السياسي، فهي من نسيج المجتمع المتأثر بكل ما يجري فيه من فرز واستقطاب وشحن وتحريض. فضلاً عن أن الدولة إذا دفعت نحو خيارات معينة بالإكراه فإن ذلك سيولد حالة من التمرد والشعور بالمظلومية التي تصنع مقاومة مقدسة في نظر كل من يشعر أنه في دائرة الاستهداف.
•لا أقصد التدخل العسكري أو الأمني؟
-يمكن للدولة القيام بجملة إجراءات للتخفيف من غلواء المزيج المذهبي السياسي المتعصب، وإبعاد المجتمع عن الفتن الطائفية، بإبراز دور الوسط الذي ليست لديه عقدة ضد الآخر المختلف معه، ولا يعتقد أن وجود غيره خطرا عليه، ولا يفكر في إخراجه لا من الحياة الفكرية، ولا السياسية ولا الطبيعية، ثم تتضافر الجهود لتوسيع دائرة ذلك الوسط، وتتاح له فرصة تقديم نفسه حتى يبدو كتيار واسع التأييد. عند ذلك سيسعى المتنافرون من أصحاب المزيج المذهبي السياسي، لاستقطاب ذلك الوسط، وسيدركون أن قبولهم لن يكون إلا بمقدار ما يكون لديهم من مرونة واستعداد لقبول الآخر كما هو، لا كما يريدون، وهذا مما يدفع بهم نحو مراجعة مواقفهم ومناهجهم، وشيئا فشيئا يتعودون على قبول غيرهم ويدركون أن لهم حقا في الوجود، وحقا في التفكير، وحقا في العيش الكريم، وإن لم يكونوا على شاكلتهم في شيء. ذلك إلى جانب أن تتبنى المؤسسات الرسمية ثقافة التسامح والتعايش، وتقوم بضخها من خلال قنوات التأثير مهما كانت انتماءات القائمين عليها، ويتولى فريق من النخب استحضار قيم التسامح من الدين الحنيف وتقديمها كنظريات للحياة الكريمة، وتمارسها بالفعل في سلوكها اليومي، حتى يثبت للمجتمع بكل أطيافه أنه لا يمكن لأحد أن يلغي أحداً، وأن التعايش والتسامح هو الخيار الأمثل للشعوب والمجتمعات، مهما اختلفت قناعاتها الفكرية وخياراتها السياسية.
•بالنظر إلى دورك في  تأسيس جماعة الشباب المؤمن، عندما تنظر اليوم إلى عدد القتلى والجرحى والمعاقين والأرامل والايتام والأموال الضائعة والبيوت المهدمة. لو استقبلت من أمرك ما استدبرت . ماذا ستفعل؟
-لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاعدت ذلك المشروع من جديد، ولطورته بأفضل مماكان، وعملت على حمايته حتى لايؤخذ بعيدا عن أهدافه، فيزرع بدل الورد شوكاً، وينتج عنه بدل الحياة موتا، ومكان الألفة فُرقة، وبدل المودة عداوة، ومكان الانفتاح جمودا.
• بعد تحويل الإسلام إلى مشروع فتنة وصراعات، وشعار للموت والقتل واللعن، كيف يمكن تصحيح الخطاب الديني وتنقية الإسلام مما يشوه صورته العقلانية السمحة؟
- علينا أن ندرك أن الذين يذهبون بأي جماعة إلى مشاريع الفتن، ويحشدونهم على ضفاف الصراعات، ويقذفون بهم في لهوات الهلاك؛ يعملون بعناية على سد جميع منافذ تفكيرهم؛ حتى لا ينفذ إلى عقولهم أي قبس من نور يكشف حقيقة ما يجري في دهاليز الظلام، فهم يعلمون يقينا أنه لو تسلل إلى عقول اتباعهم بصيص ضوء لمشوا فيه؛ لأنه لا يقيم في وحشة العتمة إلا من لا يعرف بهجة النور.
 وهذا ما يجعل من يتولى كبر الفتن والصراعات يحجب اتباعة وأنصاره عما لدى الآخرين، على قاعدة {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ..} ويؤكد لهم أن كل ما يأتي به مخالفوه مجرد ضلالات وبدع، ومراكب غرق وهلاك.. فجميع الناس سواه: (مخالفون للحق. أعداء للوطن. مبتدعون. علماء سلطة. عملاء الخارج . روافض . نواصب. جهلة . مفتونين بالدنيا) وغير ذلك من المصطلحات التي تستعمل كوسيلة لحجب الاتباع وفصلهم عن محيطهم وقطع تواصلهم مع غيرهم.
 لذلك لا أجد وسيلة أنفع من العمل على الوصول إلى عقول الناس واسراجها بالمعارف الواسعة والأفكار النيرة لتنطلق في النور نحو كل الخيارات، وتسمع القول ونقضيه، والفكرة وضدها، والتجربة وعكسها، لتخلص بعد ذلك إلى أجود وأكمل وأصلح ما يطرحه الناس كل الناس.
على أن يقوم رجال الدين والفكر والدعوة بتقديم أفضل مالديهم من الخيارات المقبولة المعقولة لتكون إحدى ما يتم فيه وعليه المنافسة، وكأننا في قاعة عرض للمنتجات، فـ { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.. هذه مسؤلية علماء الدين المتنورين، ورجال الفكر المنتجين، والدعاة والكتاب المبدعين، كل في الوسط الذي يتقبله ولو بنسب متفاوتتة.
أما إذا ذهب كل فريق بجماعة، وأغلق نوافذ تفكيرها، وحال بينها وبين النظر إلى ما عند الآخر، أو قدم منتجات رديئة وطالب من مريديه اقتنائها والعمل في ضوئها تحت سطوة الترغيب والترهيب، المادي والمعنوي؛ فإن ذلك لا يفضي إلا إلى الصراعات التي لاتنتهي، ولا يجلب إلا التخلف والجهالات.

الصحوة نت – صنعاء:

موسوعة النبأ:

موسوعة النبأ: صعدة :

الخميس، 20 يونيو 2013

حدود الدور الإقليمي الإيراني: الطموحات والمخاطر

حدود الدور الإقليمي الإيراني: الطموحات والمخاطر
 محجوب الزويري
احتلّت السياسة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط مساحة كبيرة من النقاش في مواقع متعددة في العالم، ولعل طبيعة النظام السياسي الإيراني الذي ظهر بعد الثورة الإسلامية يلعب دورًا في طرح كثير من التساؤلات حول سياسة إيران الخارجية في الإقليم، وإن  كانت السياسة الخارجية الإيرانية وتأثيراتها موضوعًا بارزًا للجدل السياسي حتى قبل ظهور الجمهورية الإسلامية في إيران في العام 1979؛ فالنظام الملكي الذي قاد إيران حوالي ستة عقود كان محورًا لذلك الجدل والتساؤلات لاسيما حول ماهية ما تريده إيران من المنطقة، وما هو الدور الذي تريده لنفسها في الإقليم. واخُتمت فترة النظام الملكي بإعلان انتهاء النظام الذي عُرف "بشرطي المنطقة"، وهو دور كان المستفيد الأكبر منه في الغالب قوى كبرى على رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وهو الدور نفسه الذي جعل من النظام في عيون شعبه متواطئًا وعميلاً؛ مما دفع بحركة شعبية متنامية منذ العام 1963 لإسقاطه وإعلان وفاته.
تسعى هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على الثوابت السياسية الإيرانية -إن وُجدت- ودورها في صناعة طموحات وأهداف إيران الإقليمية. كما تسعى إلى تقديم قراءة حول هذا الدور خلال السنوات الأولى التي مضت من القرن الحادي والعشرين، وفي ذات السياق سيكون هناك تركيز على الطموحات الإيرانية، وهل شهدت هذه الطموحات أية تغييرات بسبب التطورات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.
ولما كان المحيط العربي هو الأقرب للتأثيرات التي تفرضها السياسة الخارجية الإيرانية، فإن التركيز سيكون على تفاعلات تلك السياسة مع المحيط العربي، وكذلك مآلات تلك السياسة ودورها في تحديد مكانة إيران وقدرتها على زيادة الأصدقاء أو زيادة الأعداء، وسيناريوهات الربح والخسارة من وراء تلك السياسات.
مستويات تحليل السياسة الإيرانية
للحصول على فهم أقرب لطبيعة السياسة الخارجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، فإنه يجب التذكير بأنه تم تأطيرها بثلاثة أطر مهمة، الأول: يتعلق بسياسة المعارضة للغرب ومعه إسرائيل، الثاني: معارضة الأنظمة الملكية والوراثية باعتبار أنها نظم استبدادية وفق التراث السياسي الإيراني، الثالث: تقديم البديل السياسي القادر على تغيير المعادلة لتكون في صالح شعوب المنطقة بدلاً من أن تكون لصالح الغرب والأنظمة المتعاونة معها. هذه الأطر العملية سبق لها تأطير دستوري وفق المادة رقم 152(1). تحدد هذه المادة مسارات السياسة الخارجية الإيرانية بشكل عام، لكن تفاعلاتها الإقليمية تبدو الأهم بالنسبة لهذه الدراسة. ولأن الأمر لا يتوقف عند الإطار الدستوري للسياسة الخارجية الإيرانية، بل إن هناك طرحًا آخر جاء متزامنًا مع بدايات تأسيس الجمهورية الإسلامية، ذلك هو الذي قدمه محمد جواد لاريجاني -رئيس جمعية الفيزياء والرياضيات في إيران- باعتبار إيران "أم القرى". ولعل استعارة مصطلح أم القرى يحتوي دلالة دينية وسياسية: دينية مرتبطة باعتبار أن مكة هي أم القرى للمسلمين وأن الدعوة ظهرت فيها وأن الكعبة المشرفة هناك، وأما البعد السياسي فيتعلق بتقديم إيران ما بعد الثورة باعتبارها النموذج الأصلح للأخذ به في العالم الإسلامي، فالفكرة تبدو قريبة من الفكرة الرأسمالية الغربية التي تقسّم العالم إلى مركز ومحيط، فإيران تقدم نفسها سياسيًا كمركز والعالم الإسلامي أشبه بالمحيط الذي يجب أن "ينهل" من تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية في العام 1979(2).
وتحاول النظرية أن تربط بين أحوال المسلمين عند قيام الثورة الإيرانية بأوضاع العرب عند قيام الإسلام؛ فالظلم والاستبداد المسيطر على حياة الناس في ذلك الوقت بدأت نهايته بمجيء الإسلام وجعل مكة مركزًا مهمًا للتغيير ولإشعاع الإسلام. وعليه فإن مجيء الثورة الإسلامية في إيران في الظروف التي يعيشها المسلمون عربًا أو غير عرب والتي يغلب عليها الاستبداد والانقياد للقوى الخارجية، يمثل بارقة أمل وانفراج لأولئك المستبد بهم. ورغم أن هذه النظرية تُقدّم كأساس لبناء ما يسمى بالإمبراطورية الشيعية، أو يُرجَع إليها لتفسير شعار تصدير الثورة فإنها لا تعدو كونها محاولة للاستفادة من الحالة الثورية التي كانت إيران تعيشها في أوائل الثورة، وهي بالضرورة تحمل في ثناياها عوامل ضعف كثيرة دفعت بإيران الدولة الثورية إلى تجنبها -ولو على مستوى النظرية- والمضي فيما يمكن تسميته بالواقعية في السياسة الخارجية(3).
إن عوامل الضعف في نظرية أم القرى -إن صحت تسميتها نظرية- تكمن في تجاوزها لحقائق الديمغرافيا التي تعيش وسطها إيران، والتي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن إيران محاطة بعمق سني يتجاوز المليار نسمة. كما تتجاوز الفكرة أن الإعجاب بالثورة كإجراء لمقاومة الظلم والاستبداد لم يكن يعني تبعية لها؛ فالفكرة ترى أن الشعوب يجب أن تتخلص من التبعية وأن تتمتع بخياراتها، فإذا كانت فكرة أم القرى تريد أن تفرض على الآخر أن يتبعها فقد أصبحت مثلها مثل أية فكرة يقدمها الغرب أو الشرق. الأمر الثالث، والذي لا يقل أهمية عما سبق، هو ما يتعلق بالمنهج الذي اختارته إيران لنشر الفكرة ألا وهو التركيز على الشعوب أو الرأي العام، وهو أمر في ظاهره منفعة لإيران، لكنه فتح أبواب العداء على مصراعيه تجاه إيران الدولة حتى وجدت نفسها محاطة بجوار معادٍ متحالف مع خصوم لإيران وراء البحار.
تبين مبكرًا للنظام السياسي الإيراني أن فكرة أم القرى قد لا تحمل لإيران الكثير من الإنجازات المتوقعة، لذلك ذهبت إيران حيث الواقعية السياسية التي ترى أن الجغرافيا السياسية هي المحدد الأول ولعله الأهم في تطوير السياسة الخارجية، وبعد حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران، بدأت إيران بالانفتاح التدريجي على العرب الذين تقبلوا مثل هذا الانفتاح ولكن ليس بثقة كاملة، وكذلك حافظت في السياق نفسه على علاقات غير بعيدة عن الأزمات مع تركيا.
وفي أوائل التسعينيات فرض انهيار الاتحاد السوفيتي على إيران قدرًا من درجات الواقعية في سياستها الخارجية، وإن كان لا يعني تغييرًا كليًا، حيث شعر الجوار الإيراني بقدر من التغيير مع مجيء الإصلاحيين، لكن هذا التغيير حمل معه شيئًا من التذكير بأن إيران ذات الخطاب القومي -في إشارة للحركة الإصلاحية برئاسة الرئيس الأسبق محمد خاتمي- لا تقل في تحديها لمصالح جوارها العربي عن إيران ذات الخطاب الديني غير البعيد عن المذهبية. وزاد من مخاوف جوارها الجهود التي كانت تُبذل في أواخر القرن العشرين للتقارب بين واشنطن وطهران، والمباحثات السرية التي كانت تجري لكسر الجمود في العلاقات بين البلدين والتي انتهت مع الهجوم على كل من نيويورك وواشنطن في سبتمبر/أيلول2001(4).
لم يشكّل اعتراف إيران بحقائق الجغرافيا السياسية من خلال سياستها الخارجية مانعًا لها من المضي في سياسة العداء لإسرائيل، وانتقاد كل جهود التسوية السياسية للاعتراف بإسرائيل من قبل بعض الدول العربية، وأبقت خطابها المركِّز على دعم حركات المقاومة باعتباره أساسًا من أسس سياستها الخارجية والذي يؤمّن لها دورًا بارزًا في منطقة الشرق الأوسط، كما أنه مرتكز لشرعية النظام وعقيدته السياسية. بقي هذا الدور متناميًا حتى أواخر العام 2010 حيث بدأ فصل جديد في المنطقة، وهو الفصل المرتبط بما يُسمّى بربيع الشعوب العربية.
إيران من العزلة الإقليمية إلى جني المكاسب "الظاهري"
في الوقت الذي عصفت فيه أحداث سبتمبر/أيلول 2001 بالعلاقات الأميركية-العربية، وسمحت واشنطن لنفسها بالتدخل حتى في النظم التربوية لبعض الدول العربية، خرجت إيران بشكل الدولة التي طالما عانت من الإرهاب، وأنها الدولة التي تساعد ما يُعرف بالمجتمع الدولي  على التخلص من كل حركات التطرف ضمن ما يسمى بالحرب على الإرهاب. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن إيران تحقق لها إنجازان كبيران ضمن تلك الحرب المسماة بالحرب على الإرهاب، وهما: التخلص من نظام طالبان في أفغانستان في العام 2001، ومن ثم التخلص من النظام السياسي في العراق في العام 2003. وفي نفس السياق ضمنت تشكّل حكومات ليست فقط غير معادية لإيران بل حكومات فتحت الأبواب للإنتاج الاقتصادي الإيراني المحاصر لكي يتم تصديره ويتحول إلى مليارات من الدولارات التي تعود على الاقتصاد الإيراني.
وخلقت الحرب على الإرهاب وفق قراءات متعددة فرصة لإيران -صنعتها السياسات الأميركية والاعتماد العربي على عبقرية السياسة الخارجية الأميركية المفترضة دائمًا- ظاهرها فوز طهران بنفوذ في العراق إضافة إلى ما كانت تتمتع به من نفوذ عبر علاقاتها مع سوريا ولبنان. لكن الفوز السياسي "الإيراني" رافقته خسارة على مستوى الرأي العام؛ وهي خسارة مرتبطة بالعودة القوية لصورة إيران بوصفها دولة طائفية لدى قاعدة عريضة من الرأي العام العربي الذي كان يرى في إيران مثالا يحتذى.  وفي نفس السياق الذي كانت فيه ايران تواجه تلك الخسارة، كان هناك خصومة أخرى على أشدها بين أنظمة عربية إقليمية وبين الرأي العام العربي؛ فمحور الاعتدال الذي كانت فيه مصر والأردن والسعودية، والذي كان يُنظر إليه كجزء من التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، كانت تقابله إيران بما سُمّي بمحور المقاومة مع سوريا وحماس وحزب الله. وشكّل هذا الأخير فرصة لإيران كي تحظى بشيء من الإعجاب لدى الرأي العام باعتبار أن التحالف المقابل، كان يُنظر إليه كتحالف مفرّط بحقوق العرب لاسيما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
كان الانقسام في ما خص إيران متعلقًا بموقف الرأي العام والحكومات في بعض البلدان العربية، وكانت طهران ترى في ذلك إيجابية لأن حالة الانقسام تلك يمكنها الاستفادة منها سياسيا، خارجيًا داخل المشهد السياسي الإيراني. لكن هذا التصور لدى السلطة السياسية في إيران لم يعد قائما كالسابق، فما كان يُنظر إليه من نفوذ إيراني تحاول الدولة أن تبني صورته لدى الشعب وتعزز به شرعيتها، بدأ بالتغير وبصورة متسارعة؛ فالدور الإقليمي والدعم لحركات المقاومة رآه بعض الإيرانيين لا يخدم مصلحة الشعب الإيراني، فالفقر والآثار السلبية للحصار الاقتصادي كانت في نظر الإيرانيين أسبابًا قوية لتفكر الدولة في داخل البيت الإيراني، وظهرت مقولات صريحة بهذا الشأن خلال المظاهرات المعترضة على ما جرى في الانتخابات الرئاسية العاشرة في العام 2009.
لم تغير هذه التطورات من أهداف إيران وسياستها الخارجية في المنطقة العربية، لكنها أعطت دلائل متزايدة على أن ما كان يُنظر إليه من وحدة بين الشعب والنظام فيما يتعلق بالسياسة الإيرانية الإقليمية لم يكن دقيقًا؛ الأمر الذي ربما يدفع اللاعبين الإقليميين للاستفادة من مثل هذا التطور في إعادة قراءة سياسات إيران الإقليمية. إن التغير الذي أصاب صورة إيران بعد الانتخابات العاشرة لم يكن حدثًا عابرًا، بل إنه إحدى حلقات التغيير الذي بدأ بعد العام 2003 حيث بدأ البعد الطائفي يرجع وبقوة لاسيما في نظر حكومات عربية(5).
ولم يكن الأمر مرتبطًا بالسياسات الإيرانية في المنطقة فحسب، بل ارتبط بتطور آخر ظهرت ملامحه في شهر أغسطس/آب 2002، ألا وهو البرنامج النووي الإيراني. هذا التطور زاد من حدة الشكوك في السياسات الإيرانية في المنطقة لاسيما العربية منها، واعتُبر نوعًا من إستراتيجية فرض الأمر الواقع والمتعلق بفرض النفوذ الإيراني، وزاد من حدة التوتر بين إيران وبين محيطها العربي، وكان لافتا أن إيران كانت ترى ضعف الموقف العربي لأنها تضعه ضمن الموقف الأميركي-الإسرائيلي؛ الأمر الذي فرض نوعًا من التغير التدريجي على مستوى التصريحات العربية لتشمل إسرائيل ولتدعو بصوت قوي إلى منطقة شرق أوسط خالية من السلاح النووي بما في ذلك إسرائيل. لقد أصبح البرنامج النووي أحد المفردات المهمة المثيرة للجدل فيما يتعلق بسياسات إيران، وأصبح ضمن قائمة غير قصيرة تبدأ بالتدخل في شؤون الجيران من العرب إلى تصدير الثورة إلى تحريض المعارضة ضد بعض الحكومات إلى دعم حركات المقاومة إلى سلوك مسارات مذهبية وطائفية إلى تطوير برنامج نووي يهدد الأمن والاستقرار في منطقة لم تعرف معنى الاستقرار خلال المئة سنة الماضية على الأقل.
سياسات إيران من الانتخابات الرئاسية العاشرة إلى ربيع الشعوب العربية
لم تكن الانتخابات الرئاسية العاشرة في العام 2009 مناسبة يُحتَفى بها في إيران كما جرت العادة للاحتفال بكل انتخابات تُجرى، فالانتخابات التي كانت دائمًا ما يُراد لها أن تكون تصويتًا متجددًا على شرعية النظام السياسي وقبوله في الداخل أدت في الحقيقة إلى شيء مخالف تمامًا. لقد دفعت تلك الانتخابات الانقسام إلى شفير المواجهة، واستخدمت السلطة ذراعها الأمني لفرض الاستقرار ضد المعترضين على نتائج الانتخابات. الإجراءات الحكومية المتبعة تجاوزت آثارها حدود إيران، فموضوع التصويت على الشرعية الذي لم يتحقق في نظر قطاع غير بسيط من الإيرانيين تبعه تغير دراماتيكي في صورة إيران بوصفها نموذجًا لاسيما في المحيط الإقليمي(6). وأصبح حديث الخاصة والعامة يتركز على مقولة بسيطة أخذ البعض يرددها وتتعلق بمدى دقة النظر إلى إيران بوصفها نموذجًا لأم القرى إذا كان سلوك الدولة بمثل المستوى الذي شُوهد في العام 2009. مسألة ربما لم تَرَ فيها إيران آنذاك شيئًا مهمًا باعتبار أن المحيط لم يكن بأحسن منها كثيرًا.
لم تكن الانتخابات لتمر دون المزيد من الخسائر لاسيما في ظل صعود النموذج التركي في الإقليم والذي كان يقدم نموذجًا في بُعدين مهمين: الأول: انفتاح سياسي في ظل تفوق للإسلاميين، الثاني: تطور اقتصادي منعكس في الداخل وممتد في أبعاده في علاقات إقليمية ودولية. أخذ هذا النموذج يتقدم بشكل تدريجي -ولكن أقوى- على النموذج الإيراني، والأهم في هذا السياق أن مستوى القلق في المنطقة من السياسات المرتبطة بالنموذج التركي لم تكن حتى قريبة من مستوى القلق من السياسات المرتبطة بالنموذج الإيراني.
لقد بقيت النظرة إلى إيران وسياساتها مقلقة رغم التراجع الداخلي الذي بات واضحًا في المشهد السياسي الإيراني، والذي امتد ليصل إلى العلاقة بين مرشد الثورة آية الله علي خامنئي ورئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد، فضلا عن أن التغير في صورة إيران لدى الرأي العام العربي أخذ يتزايد سلبيا لاسيما مع تطورات المشهد السياسي العراقي والحديث عن دعم إيران لتيار على حساب تيار. كل هذا فرض نوعًا من العزلة السياسية والعزلة الشعبية تمثل في قلة تواصل إيران مع المحيط العربي مقارنة مع أوقات كانت فيها العلاقات أفضل لاسيما في فترة الرئيس الأسبق محمد خاتمي الأولى 1997-2001.
ولم تُفِق إيران من تبعات الانتخابات الرئاسية العاشرة حتى عمّ جوارها رياح تغيير سياسي لم يكن يُتَصور أو يُطرح كسيناريو حول المنطقة العربية. تلك كانت رياح الربيع العربي التي بدأت من تونس لكنها لم تتوقف بل تعدتها إلى خمس دول (مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا) بشكل مباشر. وكانت تطورات الأحداث في العالم العربي منذ شهر ديسمبر/كانون الأول 2010 بمثابة العاصفة التي أماطت اللثام عما أصاب ويصيب السياسات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط لاسيما مع العالم العربي؛ فالتغير الذي طال الأنظمة السياسية لم يحقق ما كانت إيران تتمناه من كونها الدولة النموذج في المنطقة. بل على العكس من ذلك، جاء التغيير ليضع ضغوطًا إضافية على إيران من حيث ضرورة أن تُظهر مواقفها بطريقة واضحة وبعيدة عن الغموض. وهكذا أيدت إيران ثورة مصر وتونس، لكنها ترددت في تأييد الثورة الليبية من منطلق تصورها أن التغيير المراد هو سياسة أميركية، وأن المطلوب تغيير في اتجاه المصالح الأميركية. هذا بالضرورة لم ينفِ حالة من السرور بزوال نظام معمر القذافي المتهم باختفاء رجل الدين الشيعي اللبناني السيد موسى الصدر. لكن الفرحة لم تكتمل بالنسبة لإيران بعد التدخل الأميركي الذي رأت فيه إيران مقدمة لبناء قاعدة أميركية جديدة المنطقة(7).
كان الربيع العربي الاختبار الصعب لإيران الدولة وكذلك الشعب(8)، فالدولة المتفاجئة بدت إضافة إلى التردد في المواقف، تتبع سياسة ردة الفعل نحو التطورات المتسارعة. فبعد زوال الاعتقاد بأن ظاهرة الربيع العربي قصيرة الأمد، أخذت طهران تنظر إلى قواعد سياساتها التقليدية والتي ترى حلفائها مستهدفين، وأن التغيير عندهم لا يندرج ضمن تطورات الربيع العربي، وهنا تحضر سوريا وثورتها؛ حيث تبنّت إيران التفسير الرسمي السوري الذي يتحدث عن الحاجة إلى الإصلاح، وأن الإصلاح ضرورة لإبقاء سوريا "المقاومة" قوية. مثل هذه الفرضية تراجعت لدى الرأي العام العربي السياسي بحيث بات من المؤكد أن سوريا تعيش حالة الثورة، وان التغير المتطور فيها هو حراك داخلي يهدف إلى التغير السياسي السلمي. ومع استمرار التطورات في المشهد السوري زاد التركيز على السياسة الإيرانية، ولم يقف عند الدعم السياسي للنظام في سوريا، بل تجاوزه إلى الوقوف مع روسيا والصين في شكل من التحالف لمنع أي قرار أممي ضد النظام السوري. كما أنها –وفق تقارير متعددة- لم تتردد في تقديم الدعم العسكري لاسيما في مراحل الثورة الأولى حيث كان النظام يتمتع بسيطرة شبه كاملة على التراب السوري(9).
وفي الوقت الذي تقوم فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدعم النظام السوري، كانت تؤيد حركة الاحتجاجات البحرينية والتي تصفها إيران بأنها مشروعة، وهاجمت بشدة موقف الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي الذي أرسل قوات درع الجزيرة لحماية المؤسسات السيادية في البحرين. كانت الانتقادات الإيرانية موجهة بشكل خاص للملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتين أرسلتا قواتهما إلى البحرين. ولا يبدو الموقف الإيراني منفصلاً عن الانتقاد الشديد الذي يُوجّهه كلا البلدين إلى إيران بسبب قضية الجزر الثلاث (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) المتنازع عليها بين الإمارات العربية المتحدة وبين إيران. كما أنه لا ينفصل عن الانتقادات غير المتوقفة لإيران بسبب سياستها المتعلقة بدعم حزب الله في لبنان وكذلك محاولة التدخل في شؤون البلدان الخليجية في إشارة إلى العلاقة مع المواطنين الشيعة في تلك الدول. لقد كانت الخطوات الخليجية المتخذة نحو ما كان يجري في البحرين متسارعة، وكذلك كان الموقف المتدحرج نحو المسألة السورية ونزع الاعتراف عن النظام السوري، في حين كانت هذه الخطوات تعني الكثير بالنسبة إلى إيران التي ترى في النظام السوري حليفًا إستراتيجيًا(10).
شكلت الثورة السورية ورقة الاختبار الصعبة لإيران، وكذلك لحلفائها في المنطقة مثل حماس وحزب الله؛ فسوريا التي اعتُبرت أنها مساند أساسي لحركات مثل حماس والجهاد الإسلامي، خسرت في الحقيقة كلتا الحركتين اللتين لم تترددا في اعتبار ما يحدث للسوريين بيد النظام غير مقبول(11)، ما أدى إلى تفكّك العلاقة بين سوريا وتلك الحركات، لكن المتضرر الآخر كان إيران التي حاولت أن تحصل على نوع من المساندة للنظام السوري من تلك الحركات وهو الأمر الذي لم يتحقق. إن الانسحاب الذي قامت به تلك الحركات من سوريا وعن سوريا شكّل عاملاً مؤثرًا في الدور السياسي الذي ترى إيران أنها تقوم به، خاصة وأن هذا الدور جاء متزامنًا مع تعرض الفلسطينيين لهجمات عنيفة من قبل النظام السوري في مخيم اليرموك، ما جعل السياسات الإيرانية على محك الانتقاد الشديد لاسيما وهي التي تنتقد السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وغزة. وزاد الانكباب الإيراني على النظام السوري – مع عدم تقديم أي دليل على وجود دور لحماية الفلسطينيين داخل سوريا- من عوامل الإحراج لإيران عند الرأي العام العربي الذي بدأ "يتأكد له" أن السياسة الإيرانية تنضبط إيقاعاتها بالبُعد المذهبي. خلاصة طالما حاول البعض في المنطقة تجنبها -لاسيما القوى السياسية العربية التي كانت تنظر بإيجابية إلى دور وسياسة إيران في المنطقة.
ومع مزيد من التطورات في المنطقة العربية تزداد الاختبارات للسياسة الإيرانية في المنطقة العربية، اختبارات تطرح أسئلة حول مدى تطابق المفاهيم التي روجت لها بأنها تدافع عن المظلومين، وأنها الدولة الضحية "التي جمع الناس لها" مع فعل السياسة الإيرانية خلال الأعوام 2011 و2012. إن تلك السياسة تبدو في نظر الرأي العام -الذي طالما نظر إلى التجربة الإيرانية بإعجاب- قد أخفقت، وأن إيران تُمعن في الاستمرار في مواقفها دون تغيير يُذكر. فالموقف من الثورة السورية بقي في الدائرة الأولى التي لا ترغب في تغيير يطول النظام السياسي رغم ما لحق بسوريا والسوريين من دمار(12) وهو موقف سعت إيران إلى جعله موقف الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي الذي ترى حكومته أن أي انهيار للنظام السوري يعرّض "وحدة سوريا للخطر".
إن الرغبة القوية لدى إيران لإبقاء قواعد اللعبة السياسية كما كانت خلال العقود الماضية تبدو جليّة، وهي رغبة تذكّر بأن إيران دخلت منذ العام 2005 في ما يُسمّى الجمهورية الثالثة والتي يُنظر إليها على أنها محاولة لبعث الإرث السياسي والخطاب السياسي والأدوات السياسية التي اتبعتها إيران في العقد الأول من الثورة، فكانت سياسة تثير جوارها العربي وغير العربي. وحافظت إيران نوعا ما على خطها السياسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبقيت تتعامل مع المشهد الدولي وكأنه بقطبين، بغية الإبقاء على إستراتيجية كانت تعكس عدم الثقة بالنظام الدولي الذي تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن المهم كذلك هو الإصرار على مرتكزها في السياسة الخارجية بأنها "لا شرقية ولا غربية". ويبدو أن هذا الأمر يحقّق بعض النجاحات لاسيما إذا ما أُخذ بعين الاعتبار ما فعلته إيران في المحافظة على مستوى من العلاقة المعقولة مع روسيا، وفي نفس الوقت جعل الصين شريكًا في سياستها الخارجية. ولعل حالة التعاون بين البلدان الثلاثة واضحة في الموقف من الثورة السورية، لاسيما الاتفاق بين روسيا وإيران على بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم، والذي قد لا تشاركهم الصين إياه بنفس المستوى، لكنه يعكس حالة من التوافق بينها جميعا.
ترى طهران أن أدوات سياستها الخارجية لا تزال صالحة، لكن الواقع يعكس معطيات جديدة قد تفرض على إيران إعادة تقييم سياساتها، من ذلك أن الأنظمة السياسية الجديدة لا تبدو متوافقة مع إيران وسياستها، هذا في الوقت الذي كانت إيران تفترض بأن التغيير السياسي في المنطقة سيأتي بأنظمة ترى في إيران "النموذج". في الواقع، يبدو أن هذه الأنظمة تضع إيران في دائرة الدولة غير المرغوب فيها وهو ما لا ترغبه إيران ولا تتمناه في المحيط العربي، لاسيما مع ارتفاع وتيرة مواجهتها مع الولايات المتحدة حول برنامجها النووي والحديث المتكرر عن الخيار العسكري. إن التصريحات المصرية حول أمن دول الخليج وكذلك الموقف المتعارض كليًا مع الموقف الإيراني من الثورة السورية مثال واضح على مثل هذا التحدي الجديد الذي يواجه السياسة الإيرانية في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وفي السياق نفسه، تبدو حالة التوافق بين الرأي العام العربي وبين الأنظمة الجديدة في تلك البلدان من إيران، نوعًا من التجانس لم تعتدْ عليه إيران بهذا المستوى من الإجماع من قبل(13).
وإذا كانت الأنظمة السياسية الجديدة قد فاجأت إيران إلى حد كبير في سياستها نحوها، فإن الإسلاميين في موقفهم شكّلوا فيما يبدو مفاجأة أخرى؛ فالإسلاميون الذين كانت إيران ترى فيهم امتدادًا فكريًا للثورة الإسلامية وكانت علاقاتها مع أولئك الإسلاميين سببًا للخلاف مع كثير من حكومات المنطقة، لا يبدو أنهم على وئام مع سياسة إيران في الأعوام 2011 و2012. وهنا يبدو حاضرًا عدم الرضا عن الموقف الإيراني من الثورة السورية والدعم المتواصل للنظام السوري، كما يظهر التفسير الذي يبدو رائجًا حول طائفية إيران ومذهبيتها كمحفز لسياستها الخارجية نحو كل من البحرين وسوريا.
لم يقف الأمر عند المنطقة العربية، فقد تجاوزها ليصيب العلاقات التركية-الإيرانية؛ فالتعارض الواضح بين البلدين حول الموقف من الثورة السورية أدخل العلاقات السياسية في أزمة حقيقية بدأت منذ تدخل تركيا المتأخر في الثورة الليبية ومشاركتها الناتو في مساعدة الثوار ضد نظام معمر القذافي. حينها كان الخطاب القادم من طهران يركز على أن تركيا في ظل حكومة العدالة والتنمية إنما تروج "للإسلام الأميركي"(14). مثل هذا الأمر دفع البلدين -لاسيما في الجانب الإيراني- إلى حرب من التصريحات لم تتوقف لاسيما بعد موافقة تركيا على نشر أربع بطاريات لصورايخ باتريوت على حدودها مع سوريا. هذه الخطوة أضافت زيتًا إلى نار المواجهة بين البلدين إلى حد وصف بعض قادة الحرس الثوري لها بأنها قد تدفع إلى حرب عالمية ثالثة(15). إن دلالة المواجهة بين أنقرة وطهران ليست بسيطة؛ فالبلدان اللذان تعاونا بشكل كبير لاسيما في الاتفاق التركي-البرازيلي حول البرنامج النووي الإيراني في العام 2009، وكذلك الدفاع الإيراني عن تركيا أمام رفض بعض الدول الأوروبية لاسيما فرنسا لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. ورغم تأخر الردود التركية على ما كان يصدر من طهران، إلا أنها جاءت أيضًا لافتة للانتباه، فرئيس الوزراء في سياق انتقاده لحكومة المالكي ووصفها بأنها طائفية، لم يتردد في أنها تحصل على "دعم خاص"؛ الأمر الذي فُهم على أنه إشارة إلى طهران.
إن الأزمة غير البسيطة في العلاقة بين تركيا وإيران لها ما لها من انعكاسات إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدور التركي المتنامي في المنطقة، وكذلك قدرة تركيا الاقتصادية والقدر الكبير من التوافق الداخلي السياسي الذي تتمتع به الحكومة التركية الحالية. لكن ذلك لا ينفي أن تغييرًا قد يحدث في المستقبل داخل المشهد التركي ويلقي بظلاله على العلاقة مع إيران، وهو تغيير لا يُتوقع أن يكون متناغمًا مع السياسة الإيرانية في المنطقة.
إن إيران بعد عامين على ربيع الشعوب العربية تقف أمام معمعة سياسية حقيقية ولا تزال تواجهها بأدوات قديمة؛ فالعداء نحو الولايات المتحدة والموقف من إسرائيل والبقاء في مربع الدولة والأمة "المتآمَر عليها اقتصاديًا وسياسيًا" إستراتيجية ربما أصبح من الضروري مراجعتها. إن المزاج العام في المنطقة العربية اليوم أصبح نشطًا ويصعب إرضاؤه وربما يصعب إعادته إلى الوراء أيضًا. وهذا يعني أن هناك قراءات جديدة حول الصراع مع إسرائيل وتغييرًا في الأولويات حول العلاقة مع أميركا والغرب، وصعود قوى سياسية ذات خطاب متوازن وأخرى على العكس من ذلك. كل ذلك يجعل حالة المخاض عسيرة في المنطقة، وإيران التي تعيش هي أيضًا مخاضها السياسي الداخلي ليست بعيدة عن هذا التغيير؛ فالحديث عن ربيع إيراني يتردد في مقارنة مع الحالة العربية، إلا أنه يُبقي الحالة الإيرانية معرّضة للتغيير بسبب عوامل اضافية مثل تحدي "الكهولة" والتقدم في السن على مستوى الصف الأول من القيادة السياسية وكذلك التحديات الجديدة التي تفرضها العقوبات الاقتصادية على الدولة والشعب الإيرانيين. هذا كله يطرح تساؤلات عمّا يمكن أن يصيب السياسية الإيرانية وأهدافها في ظل ما يجري في المنطقة من تغييرات متسارعة؟
خاتمة
إذا كان ثمة إقرار بعنصر المفاجأة الذي وقع على إيران بسبب تطورات الربيع العربي، فإن المفاجأة التي لا تقل أهمية هي بقاء إيران في المربع الأول لسياستها التي أثارت حولها الحكومات من قبل والتي تثير الحكومات والرأي العام العربيين؛ فإيران لا تبدو مستعدة لتغيير في مسارات سياساتها، ولعل زيارات العلاقات العامة التي قام مسؤولون إعلاميون إيرانيون بها إلى بلدان الثورات العربية في تونس وليبيا ما هي إلا نوع من تقديم نموذجها لتلك الدول للاستفادة منه في فترة ما بعد الثورات. وتُبدي إيران في ذات الوقت قدرًا من الاستعداد للنقاش مع دول أخرى منها تركيا لمناقشة قضايا إقليمية لكنها قد لا تُظهر ذلك بنفس القدر نحو بلدان عربية، منهج تفسره إيران بغياب الدولة العربية التي تلعب دور القيادة في العام العربي. ولعل السبب في عدم مراجعة السياسات يعود إلى عدم تغيير الأهداف بعدُ؛ فإيران ربما تنتظر ما يمكن أن يحدث في برنامجها النووي والحديث المتكرر عن مراسلات مع واشنطن، وكذلك مناقشات حول البديل إذا ما فشل الحل الدبلوماسي.
يبدو أن إيران أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة مرتبطة بسياستها في المنطقة، السيناريو الأول: هو المبادرة إلى مراجعة تلك الأهداف وتبني مواقف تعترف بها بالتغيير ونتائجه ومصالح الآخرين، هذا السيناريو يستلزم من الأطراف الإقليمية لاسيما العربية نوعًا من التحالفات ووضوحًا في تحديد مصالحهم، وامتلاك الأدوات السياسية والاقتصادية. هذا السيناريو يبدو صعب التحقق بالنسبة إلى إيران لأنه يتطلب نظرة إلى مفهوم شرعية الدولة الذي تم ربطه بالسياسة الخارجية ومرتكزاتها.
السيناريو الثاني: أن يتم التغيير في ظل التفاوض مع الولايات المتحدة، وفي ظل هذا السيناريو تتطلع إيران إلى تغيير تكتيكي يهدف إلى تخفيف الضغوط وشراء وقت لدراسة نتائج الربيع العربي وطبيعة الدول الناشئة بعده وقدرتها على النهوض بمسائلها الداخلية والإقليمية. ضمن هذا السيناريو أيضًا -والذي سيكون ضمن مفاوضات متعلقة بالبرنامج النووي- ربما ستحاول إيران تقديم تنازلات مرحلية وتقايضها بتخفيف جزئي ومؤقت للعقوبات لاسيما قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية الحادية عشرة في يونيو/حزيران 2013. هذا السيناريو ستقوى فرصته إذا تمكنت الثورة السورية من إسقاط النظام السياسي هناك.
السيناريو الثالث: هو بقاء إيران في المربع الأول وقراءة الأحداث وكأن تغييرًا لم يحدث، أو محاولة تبنّي تغييرات تجميلية تتعلق بعرض دعم ومساعدة الدول الناشئة، مع الاستمرار في برنامجها النووي الذي يرى فيه النظام عنصر توحيد للإيرانيين خلفه. هذا السيناريو سيدفع إلى مزيد من عزلة إيران الإقليمية وسيدفع بخيار المواجهة معها لاسيما إذا ما تم إعادة انتخاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. إن نظرة إلى مسيرة أكثر من ثلاثة عقود للجمهورية الإسلامية تشير بوضوح إلى أن التغيرات الراديكالية في سياساتها قليلاً ما حدثت. وإن حدثت أحيانًا فهي مرحلية ولم تؤد إلى انفراجات حقيقية في علاقاتها مع الدول، وهذا يدفع إلى القول: إن السيناريو الثالث تبدو فرصته أكبر في التحقق؟
إن التطورات التي دفع بها الربيع العربي قد قلّلت كثيرًا من فرص الربح بالنسبة إلى إيران. هذه الخلاصة المبكرة ربما للنتائج التي سيتركها الربيع العربي ليس لها ما يخالفها حتى لحظة كتابة هذه الدراسة، وإذا ما استمرت التطورات دون تغيير وحصل تغيير جوهري في سوريا فإن فرص الربح بالنسبة لإيران تتراجع أكثر، وربما ينتقل قدر من الصراع الإقليمي من جديد إلى العراق الذي لا يبدو بعيدًا عن رياح الربيع العربي لاسيما وأنه في ظل الحكومة الموجودة يبدو الحليف الوحيد لإيران إضافة إلى حزب الله.
__________________________________
محجوب الزويري-أكاديمي متخصص في تاريخ إيران المعاصر والشرق الأوسط، جامعة قطر
المصادر
1- موقع Iran Online
 http://www.iranonline.com/iran/iran-info/government/constitution-10.html
2- انشغلت إيران مع بدء الثورة بنموذجين: الأول: المتعلق بنموذج الثورة الإيرانية وقابليتها للانتشار؛ وهو الأمر المرتبط بما عُرف بتصدير الثورة. وغير بعيد عن هذا كانت فكرة "أم القرى". على الجانب الاقتصادي انشغلت إيران بالنموذج الصيني، وقد جرت حوارات كثيرة في إيران حول التجربة الاقتصادية الصينية وإمكانية أن تقتفي إيران هذه التجربة لبناء اقتصاد ما بعد الثورة الإسلامية.
3-Nabavi, Abdolamir: The Range in Iran’s Idealistic Foreign Policy: Ebbs and Tids,
http://www.int-politics.com/Articles/No3/ablolamir%20nabavi.pdf
4- Rezaei, Ali Akbar: Foreign Policy Theories: implications for the Foreign Policy Analysis Of Iran, in Iran’s Foreign Policy from Khatami to Ahmadinejad, Edited by A Ehteshami & M Zweiri, Itheca press, London, 2008, pp17-36
  Ramazani, Rouhollah K:Iran’s Foreign Policy: Independent, Freedom and the Islamic Republic. in Iran’s Foreign Policy from Khatami to Ahmadinejad, Edited by A Ehteshami & M Zweiri, Itheca press, London, 2008, pp1-16
5- للمزيد، انظر: ,Ehteshami, Anoush: Iran and its Immediate Neighborhood, in Iran’s Foreign Policy From Khatami to Ahmedinejad, (Ed  A. Ehteshami & M Zweiri), Ithaca Press, London 2011, 129-140.
6- الزويري، محجوب: الانتخابات الرئاسية العاشرة وانعكاساتها الإقليمية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبوظبي، 2010.
7- وزير الخارجية "الإيراني": إيران تحذّر من هجمات الناتو على ليبيا، صحيفة الشعب اليومية أون لاين، 7 يوليو/تموز 2011:
  http://arabic.people.com.cn/31663/7432101.html
8- لا يمكن الحديث عن موقف إيراني موحّد نحو الربيع العربي؛ فالنظام -وعلى رأسه المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي- يرى أن الربيع العربي هو بمثابة صحوة إسلامية. وربما جاء ذلك بعد أن نجح الإسلاميون في الانتخابات المصرية والتونسية وكذلك ليبيا.
Abedin, Mahan: Khamenei throws the gauntlet at the west, Sep 21, 2011, Asia Times Online:
http://www.atimes.com/atimes/Middle_East/MI21Ak02.html
Khamenei hails 'Islamic' uprisings, 4 Feb 2011, Aljazeera:
http://www.aljazeera.com/news/middleeast/2011/02/201124101233510493.html
9- الزويري، محجوب: العلاقات الإيرانية-السورية والحراك السوري الشعبي: مركز الجزيرة للدراسات، 24 أغسطس/آب، 2011:
http://studies.aljazeera.net/reports/2011/08/2011824131918157377.htm
10- واجهت إيران في موقفها من البحرين موقفًا عربيًا شبه موحد؛ حيث اعتُبر الموقف الإيراني غير مقبول؛ الأمر الذي دفع إيران لانتقاد موقف الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي والذهاب إلى حدّ أن إيران لا تشكّل تهديدًا لجيرانها، بل إن جوارها الخليجي هو الذي يهدد إيران في إشارة للقواعد الأميركية في المنطقة. "الجامعة تنتقد موقف إيران إزاء البحرين خلال المباحثات النووية"، 3 أغسطس/آب 2011، الخليج:
http://www.alkhaleej.ae/portal/b2c164a7-f6fa-44f7-8318-2229c3ecfe61.aspx
11- موقف حماس من الثورة السورية بدا مفاجئًا لأولئك الذين كان يراهنون على أن التحالف بين حماس والنظام السوري غير قابل للانفكاك، لاسيما مع الحضور الإيراني المتمثل في البُعد الاقتصادي والدعم العسكري. مثل هذه القراءة ثبت أنها كانت غير دقيقة، فقد وضعت حماس نفسها مع الشعب السوري وبقية الشعوب العربية الثائرة؛ الأمر الذي خلط الأوراق الإقليمية بشكل واضح؛ فإيران التي كانت تراهن على عدم طائفية سياستها الخارجية عبر الاختراق الذي يؤمّن العلاقة مع حماس بدت في موقف صعب لاسيما عندما رفضت حماس الموقف الإيراني من الثورة السورية معتبرة أن على إيران أن تكون مع الشعوب وليس مع الحكومات المستبدة. أبو أرشيد، أسامة: معضلة حماس في سوريا، 16 يناير/كانون الثاني 2012، مركز الجزيرة للدراسات:
http://www.aljazeera.net/analysis/pages/7d110665-b94b-46d3-8455-9c42461ff2c6
12- من غير المفهوم كيف تنظر إيران إلى الدمار الذي يلحق  بسوريا الدولة والمجتمع وتراهن على أن نظامًا في مثل هذه الحالة قادر على مساندتها في مواجهتها التي ترى أنها قائمة مع الغرب وإسرائيل.
13- يمكن الإشارة إلى الموقف المصري الذي لم يطله تغيير في ما يتعلق بأمن الخليج الذي يعتبره جزءًا من أمنه القومي، موقف عبّر عنه الرئيس المصري محمد مرسي في أكثر من خطاب ومقابلة صحفية.
طهران: تصريحات مرسي حول أمن الخليج اختلاف في وجهات النظر، 3 يناير/كانون الثاني 2013، جريدة الشرق الأوسط:
http://aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=12455&article=711507&feature
14- إيران تصف تركيا بأنها "نموذج للإسلام الأميركي،26 ديسمبر 2012، أخبار العالم:
http://www.akhbaralaalam.net/?aType=haber&ArticleID=57278, 26 Dec 2012
15- إيران تنتقد "عسكرة" تركيا للحدود السورية، 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، الجزيرة نت:
http://www.aljazeera.net/news/pages/f79cf1d5-303d-4f30-938d-142cab5b6b79

 المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

شاهد إعلان تشيع إدريس المغربي مع ياسر الخبيث ولعنه للخلفاء وأمهات المؤمنين

إهداء إلي كل من يطعن فى الصحابي معاوية

موسوعة النبأ: فيديو

شاهد إعلان تشيع إدريس المغربي مع ياسر الخبيث ولعنه للخلفاء 
وأمهات المؤمنين